إن الفكرة المحورية التى تأسست عليها بقية مفاهيم كل التيارات الإرهابية هي فكرة ( الحاكمية ) ، هي الجذر الذي نهضت على أساسه منظومتهم الفكرية بكل مقولاتها، و مفاهيمها، و فروعها ، و منها تولدت مفاهيمهم أخرى .
الحاكمية هي فكرة سرطانية و مرضية ، تغزو عقل المتدين ، فيتحول بها من متدين إلى متطرف ، ثم من متطرف إلى تكفيري ، ثم من تكفيرى إلى قاتل يحمل السلاح ويسفك الدماء .
الحاكمية ، أفرزت لنا فكرة ( شرك الحاكمية ) و فكرة ( توحيد الحاكمية ) عند الأستاذ ( سيد قطب ) رحمه الله و أخيه ( محمد قطب ) نتيجة تأثرهم بالمفكر و العالم الإسلامي الهندي ( أبي الأعلى المودودي ) ، و تولدت من ذلك فكرة ( العصبة المؤمنة ) ، و فكرة ( الوعد الإلهي ) لهذه العصبة المؤمنة ، و فكرة ( الجاهلية) التى هي حالة بقية المسلمين ، و فكرة ( المفاصلة و التمايز الشعوري بين الفئتين ) ، وفكرة ( الإستعلاء ) للعصبة المؤمنة على الجاهلية و أهلها ، و فكرة ( الصدام بين الكفار و المسلمين ) ، و فكرة ( التمكين ) ، إلى آخر شجرة المفاهيم التى نتجت من قضية ( الحاكمية ) ، و التي تتكون من مجموعة من النظريات المتكاملة داخل عقل تلك التيارات .
وعند التفتيش عن الخيط الناظم ، عن المنجم الفكري ، الذي تولدت منه كل تلك الأطروحات القلقة ، فتبين أنه كتاب : ( في ظلال القرآن ) ، و أن ما سواه من كُتب الأستاذ ( سيد قطب ) ككتاب : ( معالم فى الطريق ) فما هو سوى مقتطفات من كتاب ( في ظلال القرآن ) ، فتبين من ذلك أن تنظيم داعش إنما هو في الحقيقة موجة جديدة من أمواج الفكر التكفيري المنبعث من كتاب ( ظلال القرآن ) الذي أحيا فكر الخوارج من جديد ؛ إن كتاب : ( الظلال ) هو القاسم المشترك، و الخيط الناظم، و الروح السارية ، لكل تلك التيارات التكفيرية و هذا ما إستنتجه الشيخ ( يوسف القرضاوي ) ودونه في مذكراته ( إبن القرية و الكُتاب : قصة سيرة و مسيرة ) .
إن ( تركي بن مبارك البنعلي) ، كتب كتابا عن الرجل الثاني في ( داعش ) : ( أبى محمد العدناني ) : طه صبحي فلاحة ، و إسم كتابه : ( اللفظ الساني، فى ترجمة العدناني )، فذكر أنه تأثر جداً بتفسير ( في ظلال القرآن ) للأستاذ سيد قطب رحمه الله ، وأنه كان من أحب الكتب إلى قلبه ، حتى عكف عليه عشرين سنة ، حتى كاد يكتبه بيده .
الإرهابي ( صالح سرية ) صاحب تنظيم ( جماعة الفنية العسكرية ) في كتابه : ( رسالة الإيمان ) ، و التي تنادي بتكفير الحكام و جاهلية المجتمع وإعتباره دار حرب ، فهذه الفكرة قد نبعت من أفكار الأستاذ ( سيد قطب ) رحمه الله ، وحتى الزعيم ( شكري مصطفى ) و تنظيم ( التكفير و الهجرة ) إنبثق من كتاب ( في ظلال القرآن )، و أن ( محمد عبد السلام فرج ) و ( تنظيم الجهاد ) و كتاب : ( الفريضة الغائبة ) كذلك إنبثق من كتاب ( في ظلال القرآن ) ، و حتى حزب ( الجبهة الإسلامية للإنقاذ ) في الجزائر إنبثقت من كتاب ( في ظلال القرآن ) ، كل التنظيمات الإرهابية إنتهاء بتنظيم داعش ، هم مجرد إفرازات لكتاب الأستاذ سيد قطب ( في ظلال القرآن ) .
يا ناس ، نحن أمام سياق فكري مختل ، بل هو متحير بشدة في تشخيص الواقع و توصيفه ، و في إقتراح حلوله ، و في كيفية تخريج جزئياته على أصول الشرع الشريف ، حتى إنتهى الأمر به إلى الصدام مع أهل الأرض كلهم ، تلك الفكرة التى كانت بذرتها عند المرشد ( حسن البنا ) في ( رسالة المؤتمر الخامس ) و في مقاله المعنون ب( صناعة الموت ) ، ثم إتسع الكلام فيها عند الأستاذ ( سيد قطب ) رحمه الله في كتاب : ( الظلال ) ، ثم تحولت إلى دمار تام وشقاء تام ، على يد ( داعش ) في كتاب ( إدارة التوحش ) ؛ إن رسائل ( المؤتمر الخامس ) للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ( حسن البنا ) رحمه الله ، تمثل فكراً صارخاً في غاية الغرابة والخطورة ، تمثل فكر مشحون بجو نفسي متشنج ، مفعم بالصراع والصدام ، كأنك ترى فيه الصورة الأولية لتنظيم ( داعش ) .
و من وراء كل ذلك مناجم من الكتب و المؤلفات و المواد المرئية على قنوات ( يوتيوب ) تحمل الفكر السلفي التكفيري الذي يُغرق العقل المسلم في طريقة التفكير و في مفاهيم البدعة و رمي الناس بالفسوق و الطعن فيهم بلا مبرر ، فإذا إلتقى هذا الفكر مع حركية ( الإخوان ) أو غير ( الإخوان ) إشتعلت الفتن و الحرائق في كل شيء و في كل مكان ، و ولدت ( داعش ) في لحظات.
وجاءت فترة الثمانينيات والتسعينيات فظهرت كتب كثيرة تنظر لهذا الفكر، مثل كتب ( سيد إمام ) ، وكتب ( أبو مصعب السوري )، و كتب ( فتحي يكن ) و ( إبراهيم الزكزاكي ) مؤسس تنظيم الإخوان في نيجيريا و نحو ذلك ، حتى إنني أزعم و أجزم أن « الإنترنت » حافل بالكتب الناقلة للفكر التكفيري التفجيري .
و في كل هذا اللغط من الأحداث تغيب كل مقاصد الشريعة التى جاءت بالحياة ( و مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيا النَّاسَ جَمِيعًا ) ، و بالخُلق العظيم ( وِإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم ) ، و بالحضارة و بالتمدن ، و بالرحمة للعالمين ( وما أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَةً للعَالَمِين ) ، وبالتعارف مع كل الحضارات والشعوب ( وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا و قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) ، و بحفظ الأنفس و العقول و الأعراض، و إكرام الإنسان ( ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آَدَم )، و جاءت بمهمة الإحياء و البناء (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَركُمْ فيها ) .
و تبقى القضية الأخيرة التى أريد أن أختم بها، و هي أن المؤسسات الفكرية داخل الدول العربية المسؤولة عن المجابهة و التفنيد و تحصين عقول الناس من مرض ( الإرهاب ) ما زالت تزحف ببطء ، و مازال يغلبها هذا الفكر المتطرف و مازالت تدعي النجاح وتنكر الواقع ،وتهمش المفكرين الذين يريدون دخول الميدان، بجوار هذا الجنون المنطلق بسرعة هائلة .
بقلم أمين بلقايم