السلطة الفعلية تحكم وتتدخل في كل شيء لكنها بلا رؤية وغير قادرة على صياغة خطة للحل, إنها تملك البلاد ولا تعرف ماذا ستفعل بها, وحتى الذين يتزلفون لها لا يعرفون ماذا يسوقون وكل ما يفعلونه هو تأويل خطاب رئيس الأركان ومهاجمة ما دونه, وفي كثير من الحالات تنتهي هذه المغامرة بنقض خطابات سابقة لقائد الجيش فضلا عن نقض المواقف السابقة لهؤلاء المتحدثين الذين استهلكهم بوتفليقة طيلة سنوات حكمه عندما استعملهم في تبرير كل خطاياه.
تتجه قيادة الجيش إلى فرض خطة ما سيتم إعدادها وفق الأساليب البالية لنظام منتهي الصلاحية, ستتم المراهنة على الأحزاب واتحاد العمال والجمعيات التي استخدمت في السابق من أجل توفير غطاء سياسي مصطنع لخطة سيتم الترويج لها من قبل وسائل الإعلام تقع تحت سيطرة النظام, وسواء تعلق الأمر بمرحلة انتقالية أو الانتخابات الرئاسية فإن التحضيرات جارية لإعادة التجارب السابقة, وحتى اذا اقتنع الرئيس المنتخب بانه يرتكز إلى الشرعية الشعبية فإن أدوات لجمه والإطاحة به ستكون جاهزة وقد بدأ تحضيرها فعليا.
إن ما يجري الآن على مستوى الخطاب والممارسة هو هجوم منسق من أجل تدمير الثورة السلمية وإنهائها, فالقوة التي لا تهتدي بخطة حل أو تصور واضح لتغيير نظام الحكم, أو حتى تجديده, تتحول إلى تدمير القوة المقابلة التي تمثلها الثورة السلمية من خلال مواجهة شاملة لا تستثني حتى الواجهة التي حرص الخطاب الرسمي على تلميعها منذ أن أسقط الجزائريون بوتفليقة ومشروع الخامسة.
يقدم لنا تحول القضاء إلى مواجهة المتظاهرين بحجة رفع أعلام غير العلم الوطني, وما يثيره ذلك من شكوك حول استقلالية هذا القضاء باعتبار ان حبس متظاهرين ومحاكمتهم بهذه التهم جاء مباشرة بعد الخطاب الأخير لرئيس الأركان الذي تحدث عن أوامر لمعاقبة من يرفعون رايات غير العلم الوطني, يقدم لنا دليلا على أن الأولوية صارت لإنهاء الثورة السلمية بدل الاستمرار في تعزيز الثقة في القضاء بعد عمليات حبس مسؤولين كبار ورجال أعمال في قضايا فساد, وهذا يؤكد أن أقصى ما تريد السلطة الفعلية تقديمه هو حبس مزيد من “الفاسدين” في مقابل الإسراع في تجديد الواجهة المدنية للحكم دون إحداث أي تغيير في المنظومة.
الممارسات التي نراها على الأرض هي انعكاس لقراءة تقليدية لميزان القوى ولمفهوم القوة في حد ذاته, كما انها تعكس عجزا عن استيعاب ما يجري في الشارع منذ 22 فيفري والأسباب العميقة التي قادت إليه.
إن وجود ملايين الجزائريين في الشوارع خلال أربعة شهور أنهى ميزان القوة التقليدي الذي ظل قائما خلال العقود الماضية, فلم يعد الأمر متعلقا بأحزاب معارضة في مواجهة سلطة لديها احزاب ومنظمات وجمعيات تستعملها للسيطرة على الساحة السياسية بل صار قائما على مواجهة بين أغلبية المجتمع التي تبحث عن مشاركة سياسية حقيقية وواجهة سياسية مصطنعة تقوم على تعددية زائفة, وهنا سقط المفهوم التقليدي للقوة الذي لم يعد يعني ذلك الكم السياسي والإعلامي المصطنع الذي يكتم أنفاس المجتمع بل صار يتجلى في هذه القدرة على التواصل والتنظيم والنقاش والاقتراح خارج قنوات النظام وباستعمال أدوات ووسائط لا تقدر السلطة على السيطرة عليها أو تعطيلها.
إن أسوأ ما يمكن أن تواجهه السلطة في المرحلة القادمة هو القوة التعطيلية للشارع, ومن المؤسف أن التوجهات التي رسمتها الخطابات الأخيرة لرئيس الأركان تدفع الشارع نحو استعمال هذه القدرة, وسيكون إفشال انتخابات أخرى أو الدفع إلى تمريرها عنوة, ضربة قاتلة للسلطة يصعب التنبؤ بآثارها, وهذه القوة لا تمكن مواجهتها خاصة وانها قابلة للتفعيل حتى عن طريق الممارسة السلبية للسياسة من خلال المقاطعة ورفض كل مقترحات السلطة.
تدفع قراءة ما يجري في سياق تاريخي إلى التسليم بأن العجلة التي دارت لن تتوقف إلى غاية تحقيق التغيير الفعلي, وهذه العملية قد تستغرق وقتا طويلا يدوم سنوات والخيار الوحيد هو مسايرة هذه التحولات وتسهيلها لتجنيب الدولة والمجتمع كلفة عالية قد تصل إلى حد تهديد استقرار الدولة وانسجام المجتمع ووحدته.