يبدو أن عبد الرزاق مقري بمبادرته الجديدة الدّاعية إلى ضرورة تحقيق توافق وطني قبل الذهاب إلى موعد الرئاسيات قد مثلت ” بدعة سياسية ” لا تتفق بالكلية مع مواقفه الراديكالية و المتصلبة حيال السلطة ، فهو بذلك قد أحدث زلزالا داخل حركته لا يمكن تكهن شدته و ارتداداته إلا بعد بلوغ مساعيه مداها ، فالنجاح على رغم صعوبته استنادا لتجارب مماثلة سابقة من أحزاب وازنة على غرار الأفافاس و الأفالان اللذان دعيا إلى الإجماع الوطني و الجدار الوطني على التوالي ؛ سيرفع بالتأكيد من أسهم مقري و سيؤدي إلى تعزيز مكانته داخل حركته ، غير أن سيناريو الفشل يظل أكثر احتمالا و ينذر بتحول كبير داخل الحركة قد يكلف مقري رأسه و يجعله يذعن لإمكانية الذهاب نحو مؤتمر استثنائي للحركة لانتخاب قيادة جديدة لها تكون أقدر على تسيير مرحلة ” العودة إلى أحضان السلطة ” .
قبل كل شيء يجب أن نعرف لماذا أتت هذه الخطوة من حمس و في هذا التوقيت بالضبط ، طبعا لا نقصد بالتوقيت هنا الفترة القصيرة التي تسبق الرئاسيات ، فهذا بالتأكيد عامل مهم يدفع نحو التحرك لافتكاك المزيد من المكاسب السياسية ، و لكن المعنى مرتبط بالموقف أكثر من تعلقه بالوقت ، فقد عرف موقف حركة مجتمع السلم من المشاركة في الحكومة انحرافا كليا عن النهج الذي رسمه لها الراحل محفوظ نحناح ، غير أن جناحا في حمس يتزعمه عبد الرزاق مقري رأى بأن هذا النهج ليس على إطلاقه و أنه لا يمثل ثابتا لا يصح التخلي عنه بقدر ما يعتبر اجتهادا سياسيا من الشيخ نحناح يستند إلى ظروف معينة لم يعد لها من وجود ، و هو على عكس ذلك مرتبط بمتغيرات الساحة السياسية و البيئتين الداخلية و الخارجية اللتان تحيطان بالعملية السياسية و إلى أي حد تكون فيه هذه العملية التي تديرها العلبة السوداء في النظام السياسي الجزائري مفتوحة أو مغلوقة ، و من هنا فإن الحراك الشعبي الذي عرفته المنطقة المحيطة بالجزائر و الذي بدا لمعسكر مقري و للوهلة الأولى على أنه موجة من موجات التحول الديمقراطي التي بوسعها أن تكتسح الجزائر و تؤدي إلى قيام جمهورية ثانية ؛ هو ما أدى إلى إحداث قطيعة مع العقيدة السياسية لحركة مجتمع السلم فيما يتعلق بالمشاركة في السلطة و التحول جذريا و كليا باتجاه المعارضة الذي يتسق مع الصيحة الجديدة التي انتشرت في بلدان ما يعرف بالربيع العربي ، أو بتعبير أكثر دقة فإن رياح التغيير في المنطقة العربية هي ما أجبر سفينة حمس على أن تغير مسارها ، و على الرغم من وجود جناح في حمس يتزعمه أبو جرة سلطاني كان يكافح إلى آخر رمق من أجل البقاء ضمن التحالف الرئاسي و لا يزال يسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل العودة إليه ؛ فإن الرياح كانت أعتى من صمود هذا الجناح و قد أدت بالفعل إلى اجتثاثه في مؤتمر حمس الرابع عام 2103 .
و بعد عهدة كاملة قضاها مقري على رأس حمس و دخوله في عهدته الثانية و الأخيرة له حيث أن القانون الأساسي للحركة لا يمنح الرئيس أكثر من عهدتين متتاليتين ؛ فإن مقري يدرك جيدا بعد ارتطام موجات التحول الديمقراطي في المنطقة بصخور الأنظمة السياسية العربية الراسية و الصماء أن مجال المناورة لديه ضئيل جدا و هو يقل مع مرور الزمن ، فهو بذلك ليس محكوما فقط بضغوط محيطه القريب في الحركة و نعني هنا بالضبط جناح المشاركة ، و لكن أيضا بإملاءات السلطة و شروطها فهي الآن في موقف القوة و في موقع موزع أوراق اللعب ؛ حيث أن النظام السياسي في الجزائر استطاع أن يروض مارد ثورات الربيع العربي في نسخته الجزائرية و أن يدخله في قمقمه و أن يربح المزيد من الوقت من خلال عمليات الإصلاح و المشاورات السياسية و تعديل الدستور التي أطلقها و التي أعادت العداد إلى نقطة الصفر و كأن شيئا لم يحدث ، فالسلطة الآن في أريحية كبيرة خصوصا بعد اجتيازها لأزمة تهاوي أسعار النفط التي ظل مقري خلال بداية عهدته الأولى يحذر الحكومة من مغبة الوقوع في فخ انهيارها و رغم أن الفترة الطويلة نسبيا لهذا الهبوط إلا أن الأسعار سرعان ما عاودت الإرتفاع و هي الآن مستقرة عند مستوى بعيد عن نقطة الخطر ، كما أن الحكومة برئاسة أويحيى لجأت إلى التمويل غير التقليدي و الاقتراض مباشرة من البنك المركزي متفادية بذلك السقوط في كماشة الاستدانة الدولية ، و بالتالي فإن السلطة في ظل المعطيات و الظروف الحالية أكثر قدرة على التأثير على حركة مجتمع السلم من أي وقت مضى و بوسعها أن تجبرها على الرضوخ إلى مطالبها فقواعد التفاوض تؤكد هذه المقاربة .
من جانب آخر فإن مقري بمبادرته الجديدة و موقفه الجديد هذا لم يتنازل للسلطة فحسب ، بل يمثل تموقعا سياسيا غير محسوب العواقب قد يجعله يخسر مكانته داخل حركته و أي مكاسب سياسية يكون حققها خلال ترؤسه لحمس ، فبالإضافة لكونه تراجعا عن ممارساته المتصلبة حيال النظام السياسي و مهادنته له ، فهو موقف يتطابق مع موقف جناح المشاركة في الحكومة داخل الحركة و الذي لا يزال أصحابه يحافظون على خطه السياسي ، و من هنا فإن مقري يكون قد منح مبرر عودة هذا الجناح بقوة داخل الحركة و من الباب الواسع ، و يكون بالتالي قد أحدث نزيفا حادا داخل معسكره يؤدي إلى إضعافه ، و هو بفعلته هذه يكون قد أقدم على مقامرة سياسية أجبرته على الرمي بجميع ثقله و أوراقه و الرهان على إمكانية أن يكون هو من يفاوض السلطة من أجل العودة للحكومة و أن يقطع الطريق على معسكر أبو جرة فلا يمنحه بذلك هذه المزية .
فهل ستشفع هذه التوبة السياسية لمقري عند قيادة حمس فتجعلهم يقرون بمشاركتهم له في خيار الانضمام إلى صفوف المعارضة و يقتسمون معه مسؤولية القرار ، أم أن مؤسسات الحزب ستحمله المسؤولية كاملة عـن تبعات قرارين متناقضين ، الأول بدأ بفك الارتباط مع السلطة ، و الثاني مثّل عودة الإبن الضال بخفي حنين إلى أحضانها من جديد
بقلم بغداد فريد
المختص في الشأن السياسي.