بعد الانفتاح السياسي المجنون مطلع التسعينات عادت الكثير من الطيور المهاجرة أو المهجّرة الى وطنها ومنها رموز النضال الوطني على غرار الزعيمان الراحلان حسين آيت أحمد وأحمد بن بلة ..
عاد بن بلة (ولعودته قصة مؤثرة سأرويها لاحقا) ليجد وطنا قد تغير 180 درجة وأجيال صاعدة اختلفت وتناقضت بل وتصارعت ميولاتها الايدولوجية والسياسية، كان بن بلة يحاول أن يترجل في بعض الشوارع ليشم رائحة البارود ويتذكر سنوات الجمر .. يتجول فلا يكاد يعرفه سوى النزر القليل من كبار السن، أما الشباب فيجوبون الشوارع بالآلاف يهتفون بحياة علي بن حاج ويزلزلون الساحات بعليها نحيا وعليها نموت .. كان الزعيم بن بلة كمن يكتشف بلدا جديدا لا يعرفه وهو الذي دفع شبابه ثمنا ليرى صورة بعينها لوطن طالما حلم به، لكنه اليوم يرى صورة أخرى مغايرة ومشهدا غريبا وأمواج بشرية هادرة بلا عنوان تكتسح الشوارع وتملء الأفق ..
أخذ بن بلة وقتا طويلا يريد أن يستوعب المشهد الجديد، فلم يهضم أن يتراجع تأثير العظماء مثل مهري وبن خدة ومهساس وشيبان ويحياوي وطالب الإبراهيمي والخطيب وعلي كافي وشيبان وو ليبتلعهم وهج علي بن حاج الذي تجاوز الثلاثين بقليل، سأل عن الرجل وطلب لقاءه ليتعرف على هذا الرجل الذي تلهج حناجر الشباب بإسمه ولا تكاد تذكر شيئا عن صناع الاستقلال وأبطال الحرية، سأل .. من أقرب الناس الى بن حاج في التيار الوطني، فقيل له الدكتور العربي الزبيري أستاذه ويكن له احتراما كبيرا ولعل صوته مسموع لديه، طلب بن بلة حضور الدكتور الزبيري فجاءه ملبيا فالزبيري يعرف قيمة الرجل ويدرك أن خدمته شرف وطلباته أوامر، قال بن بلة للدكتور الزبيري أريد أن أقابل علي بن حاج ! استغرب الدكتور لكنه استسهل الطلب ووعد الزعيم بموعد قريب مع الشاب الذي ملء صداه المكان ..
في نفس اليوم سار الزبيري الى بيت علي بن حاج في القبة، فهو تلميذه النجيب الذي لم تسعفه الظروف لإكمال دراسته! فانشغل بالدعوة والخطابة في المساجد، رحب بن حاج بأستاذه وضيفه كما يفعل الأصلاء، بعدها أفصح الضيف لمضيفه عن سر الزيارة .. السيد الرئيس أحمد بن بلة يريد لقاءك !!؟
تغيرت ملامح بن حاج وبدا كأنه تلقى خبر وفاة شخص قريب منه، ولأنه رجل يفكر بصوت مرتفع فقد صدم أستاذه برد عنيف .. أنا ألتقى سفاحا مثل بن بلة ! معاذ الله ! الله يهديك يا أستاذي ألهذا تزورني ! لا أبدا مستحيل هذا لن يكون !.
صدم الضيف من غضب مضيفه وراح يستعير قبعة الاستاذ مع تلميذه. يا علي اتقي الله خاف ربي هذا راه كان رئيس جمهورية ومجاهد كبير وزعيم .. العالم كله يشهد له بذلك !! لماذا ترفض لقاءه؟ يرد بلحاج يا أستاذ الله يهديك هذا راهو يداه ملطختان بدماء العلماء !! أمسك الزبيري على رأسه بكلتا يديه وهو يقول أي علماء قتلهم بن بلة يا رجل وش راك تقول !؟ رد بن حاج لقد قتل الشيخ البشير الإبراهيمي قهرا وكمدا في بيته !؟ استغرب الزبيري ثم قال يا علي طالب الإبراهيمي أولى بالدفاع عن والده ولم يقل ما تقوله من أين تأتي بهذه الأفكار الخطيرة !؟
وظل الزبيري يحاصر بن حاج في النقاش الى أن أقنعه ورضخ بن حاج لطلب أستاذه لثقته فيه أولا وأخيرا وليس احتراما لبن بلة ! بل أكثر من ذلك وعد بن حاج بتنظيم وجبة عشاء في بيته لبن بلة والزبيري معاه، وعندما همّ الزبيري بالمغادرة رفع علي بن حاج يداه الى السماء وهو يدعو بصوت عال اللهم لا تكتب لهذه الوليمة أن تتم ولا تكتب لي لقاء عدو العلماء ! سمع الزبيري دعاء بن حاج استغفر الله وغادر مدهوشا مما رأى وسمع.
أسرع الزبيري بعدها الى بيت بن بلة يحمل له البشرى، فقد قبل الشاب الأكثر شعبية لقاء الزعيم الأكثر بلاء وتضحية !؟
فرح بن بلة بهذه البشرى وراح يستعد لها، لكنه في الأثناء وبالخطأ أخبر بن بلة العربي بخير الذي كان كثير التردد عليه بهذه المعلومة فكان لزاما على الكاردينال أن يفسد هذه الطبخة التي هندس لها الكبير العربي زبيري، لم يفعل بلخير شيئا سوى أنه أشغل بن بلة كل الوقت في تلك الأمسية من حصة في الاذاعة الى زيارة لمجاهد الى عشاء عند آخر حتى انقضى الليل فصلى علي بن حاج العشاء ثم أطفأ أنوار بيته ونام !
في صباح اليوم الموالي استفاق بن بلة من غفلته كلم الزبيري مسرعا شرح له الموقف وطلب منه مرافقته حالا الى بيت علي بن حاج ليعتذر منه، لكن الزبيري استأذن الرئيس في استشارة صاحب البيت أولا. زار الزبيري علي بن حاج شرح له الموقف وطلب منه اللقاء بالرئيس في نفس اليوم لكن الشيخ الشاب ابتسم وهو يقول لا والله لن يكون .. فالله قد استجاب لدعوتي بالأمس ونجاني من هذا اللقاء ..!
تدور الأيام ويبذل الرئيس بن بلة جهودا مضنية لإطلاق سراح علي بن حاج وعباسي مدني ويساهم بفعالية في المصالحة الوطنية ثم يتوفاه الله ويكون علي بن حاج من بين مشيعيه الى مثواه الأخير.
رحم الله الجميع
في الجزء القادم
بعد التعددية ..
لماذا رفض بن بلة أن يدخل الجزائر من عنابة
وقبل آيت أحمد أن يدخلها من تيزي وزو !
الاستاذ :محمد يعقوبي مدير جريدة الحوار